كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسبق أنْ قارنّا بين حركة الإنسان وحركة الحفار مثلًا، وكيف أنه يحتاج إلى عمليات مُعقدة، فكل حركة منه لها زرّ خاص يؤديها، فماذا تفعل أنت إنْ أردتَ أنْ تؤدي مثل هذه الحركات؟
إنك بمجرد الإرادة ينفعل لك العضو، وكأن فيك فيضًا من قوله تعالى: {إنَّمَآ أَمْرُهُ إذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فإذا كنتَ أنت تفعل بمجرد أن تريد، فلماذا لا تصدق هذا في حقّ الله تبارك وتعالى؟
لكن هذه الحركة وانفعال الأعضاء لك ليس ذاتيًا فيك، ويستطيع خالقك أنْ يسلبها منك، فتريد أن ترفع يدك فلا تستطيع، فأنت تحت قيوميته تعالى، فلم يُعطكَ من صفاته، ثم يتركك. فربنا سبحانه يحذرنا: إذا استغنيتَ ستَطغى؛ فتنبَّه أن إلى ربك الرُّجْعى.
ثم يلفت نظرنا من الآن إلى قضية أخرى قبل أنْ نتعرض للمخاطر: {وَإن يَمْسَسْكَ الله بضُرٍّ} [يونس: 107] فلا تتعب نفسك، وتذهب هنا أو هناك؛ لأنه {فَلاَ كَاشفَ لَهُ إلاَّ هُوَ} [يونس: 107].
هذه نصيحتي لك؛ لأنك صنعتي، وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال، فإذا مسَّك ضر لا تقدر على دَفْعه بأسبابك، فعليك بباب ربك.
هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلَّ بك الأحداث والمصائب: إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسَّك ضر، ولا حيلةَ لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه، والإله الذي يُنبّهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم.
إذن: فأنتم تحبون الحياة، ولما نزلتْ بكم الأحداث والخطوب في السفينة خفْتم الموت، ودعوتُم الله بالنجاة، فأنتم حريصون على الحياة الدنيا، فلماذا لا تؤمنون بالله فتنالون حياة أخرى أبْقى وأدوم؟ والطريق إليها بالإيمان واليقين، وبمنهج الله في افعل ولا تفعل.
هذه قضية ذكرها القرآن، أمَّا واقع الحياة فقد أكدها، وجاءت الأحداث وَفْق ما قال. القضية: {وَإذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لجَنبه} [يونس: 12] الإنسان يعني مُطْلق الإنسان: المؤمن والكافر {أَوْ قَاعدًا أَوْ قَآئمًا} [يونس: 12] يعني: في كل الأحوال، فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا الله على أيّ حال كان.
وهذه الأحوال تمثل مراحل راحات النفس، فمثلًا حين تسير وأنت تحمل شيئًا، فحين تتعب أولًا تضع عنك هذا الحمْل، ثم تتوقف عن السير لتستريح، فإنْ كان التعب أشد تقعد، وإلا تَضطجع على جنبك.
فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل، أمّا في حالة القعود يُوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة، وفي الاضطجاع يُوزع نصف الجسم على نصفه فتكون الراحة أكبر، وفي ضوء هذا نفهم أن الله يستجيب لك حين تدعوه قائمًا، أو قاعدًا، أو على جنبك.
وعجيب أمر الإنسان إذا نجَّاه الله مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالمًا لنفسه: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12].
وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة: {وَإذَا مَسَّ الإنسان ضُرّ} [الزمر: 8] أيُّ ضر {دَعَا رَبَّهُ مُنيبًا إلَيْه ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نعْمَةً مّنْهُ نَسيَ مَا كَانَ يدعوا إلَيْه من قَبْلُ} [الزمر: 8] ويا ليته نسي وسكت إنما {وَجَعَلَ للَّه أَندَادًا} [الزمر: 8] فقال: الفضل لفلان، وقد استغثت بفلان، ولجأت إلى فلان.
نلحظ أن الكلام في هذه الآيات عن الإنسان المفرد، والإنسان حين يتضرع إلى الله لا يطلع عليه أحد، فالأمر بينه وبين ربه، لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض، فيقول في موضع آخر: {وَإذَا مَسَّكُمُ الضر في البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاي} [الإسراء: 67].
فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض؛ لأن الإنسان يستر على نفسه، فالحكمة من الجمع هنا أن رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر، فمثلًا في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم سواسية في الطواف، ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم، وحين يراك صاحب المنصب أو المركز وهو مَنْ هو في بلده ساعة يعرف أنك رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك، ولا يتعالى عليك بعدها.
فالحق سبحانه حين يُحذّرنا من العودة إلى المعصية بعد أنْ يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل الواقي بصورة تحدث في الواقع، وكأنه تعالى يقول لنا: خذوا بالكم، واعلموا أنكم مفضوحون بكتاب الله فيما تُحدثون من أحداث في حياتكم، فكل منكم ينبغي أنْ يعلم أنه مراقب من الأزل ومكتوبة عليه خواطره؛ لأن معنى القرآن الحق أنه لا يتغير، وإذا قال الله فيه شيئًا فلابد أنْ يحدث كما أخبر الله به.
{ليَكْفُرُوا بمَا آتَيْنَاهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}.
واللام في {ليَكْفُرُوا} [العنكبوت: 66] ليست لام التعليل؛ لأن الكفر لم يكُنْ مقصدًا لهم، وحين عادوا بعد أن نجاهم الله إنما عادوا إلى أصلهم، فاللام هنا لام الأمر كما لو قلت: قم يا زيد وليقم عمرو، وعلامة لام الأمر أن تكون ساكنة، وهي هنا مكسورة لأنها في بداية الكلام، حيث لا يُبدأ بساكن، ولو وضعنا قبلها حرفًا لتبيَّن سكونها.
ومثالها في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بالبيت العتيق} [الحج: 29].
وقوله سبحانه: {ليُنفقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَته وَمَن قُدرَ عَلَيْه رزْقُهُ فَلْيُنفقْ ممَّآ آتَاهُ الله} [الطلاق: 7].
والدليل على أنها لام الأمر سكون اللام بعدها في قراءة من سكنها، وفي {وَليَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت: 66] وقوله سبحانه: {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} [العنكبوت: 66] فرْق في الاستقبال بين السين وسوف، فلو قال: فسيعلمون لَدلَّتْ على التهديد في المستقبل القريب، وأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، أمّا سوف فتدلّ على المستقبل البعيد، فتشمل التهديد في الدنيا وفي الآخرة فهي تستغرق الزمن كله؛ لأن المسلمين في باديء الأمر كانوا مستضعفين، لا يستطيعون حماية أنفسهم، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر الله لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار فسيعلمون لم تكن مناسبة، إنما أعطى الأمد الأوسع للتهديد، فقال: {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} [العنكبوت: 66].
لذلك تجد الدقة في أخْذ العهد من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الرسول للأنصار، فلما قابلوا رسول الله قالوا: خُذْ لنفسك. قال: تحمونني مما تحمون منه أنفسكم وأعراضكم وأموالكم.
فقالوا: فما لنا إنْ فعلنا؟ كان من الممكن أن يقول لهم: ستملكون الأرض أو ستنشر دعوة الله بكم وتنتصرون على عدوكم، لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم، ويموت بعضهم قبل أنْ تتحقق، فلا يرى منها شيئًا؛ لذلك ذكر لهم جزاءً يستوي فيه الجميع مَنْ يعيش منهم، ومَنْ يموت، فقال: لكم الجنة.
وأيضًا حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضًا، فهي صفقة خاسرة، إنما أراد أنْ يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس، وليس هناك أعظم من دنيا الناس إلا الجنة.
والصحابي الذي أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد، وكان يمضغ تمرة في فمه فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال: بلى، فألقى التمرات وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء.
إذن: فسوف صالحة للزمن المستقبل كله، أمّا السين فللقريب؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل الدنيا، كما في قوله تعالى: {سَنُريهمْ آيَاتنَا في الآفاق وفي أَنفُسهمْ} [فصلت: 53].
وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول الله، وإلى أنْ تقوم الساعة، فكل يوم يجدُّ في ظواهر الكون أمور تدل على قدرة الله تعالى، فمستقبل أسرار الله في كونه لا تنتهي أبدًا إلا بالسر الأعظم في الآخرة، ففي زمن رسول الله قال: {سَنُريهمْ} [فصلت: 53] وستظل كذلك {سَنُريهمْ} [فصلت: 53] إلى أنْ تقوم الساعة.
ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلام حتى الآن، فهنا {وَليَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت: 66] تجد تحت اللام كسرة، مع أنها ساكنة، وهذا يعني أن كتاب الله غالب، وليس هناك محصٍ له.
وأذكر أن سيدنا الشيخ عبد الباقي رضي الله عنه وجزاه الله عَمَّا قدَّم للإسلام خير الجزاء- أعدَّ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصي ألفاظه لاسيما لفظ الجلالة الله الذي من أجله أعدَّ هذا الكتاب، ومع ذلك نسي لفظ الجلالة في البسملة، وبدأ من {الحمد للَّه رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] ؛ لذلك نقص العدد عنده واحدًا. وما ذلك إلا لأن كتاب الله أعظم وأكبر من أنْ يُحاط به.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا}.
رأى قلنا: تأتي بصرية، وتأتي بمعنى عَلم، ومنه قولنا في الجدال مثلًا أرى في الموضوع الفلاني كذا وكذا، ويقولون: وَلرَأىَ الرؤْيا انْم ما لعَلمَا، وتجد في أساليب القرآن كلامًا عن الرؤيا المخاطب بها غير راء للموضوع، كما في قوله سبحانه مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأَصْحَاب الفيل} [الفيل: 1].
ومعلوم أن النبي لم يَرَ ما حدث من أمر الفيل؛ لأنه وُلد في هذا العام فرأى هنا بمعنى علم، لكن لماذا عدل عن ألم تعلم إلى {ألم تر}؟ قالوا: لأن المتكلم هنا هو الله تعالى، فكأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتُك بشيء، فإن إخباري لك به أصدق من رؤيتك.
يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس منْ حَوْلهمْ} [العنكبوت: 67] فالحرم آمن رغم ما حدث له من ترويع قبل الإسلام حين فزّعه أبرهة، وفي العصر الحديث لما فزَّعه جهيمان، وعلى مَرّ العصور حدثتْ تجاوزات في الحرم تتناقض في ظاهرها مع هذا الأمن.
ونقول: كلمة {حَرَمًا آمنًا} [العنكبوت: 67] في القرآن بالنسبة للكعبة فيها ثلاث إطلاقات: فالذين يعيشون فيه وقت نزول هذه الآيات يروْنَ أنه حرم آمن، وهذا الأمن موهوب لهم منذ دعوة سيدنا إبراهيم- عليه السلام-.
فحين دعا ربه: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ من ذُرّيَّتي بوَادٍ غَيْر ذي زَرْعٍ عندَ بَيْتكَ المحرم} [إبراهيم: 37] كان مكانًا خاليًا، لا حياة فيه وغير مسكون، ومعنى ذلك أنه لم تكُنْ به مُقوّمات الحياة، فالإنسان لا يبني ولا يستقر إلا حيث يجد مكانًا يأمن فيه على نفسه، ويتوفر له فيه كل مُقوّمات حياته.
لذلك دعا إبراهيم ربه أنْ يجعل هذا المكان بلدًا آمنًا يعني يصلح لأنْ يكون بلدًا، فقال: {رَبّ اجعل هذا بَلَدًا آمنًا} [البقرة: 126].
وبلد هنا نكرة تعني: أيْ بلد لمؤمنين أو لكافرين، فلما استجاب الله له، وجعلها بلدًا كأيّ بلد تتوفر له مُقوّمات الحياة دعا مرة أخرى: {رَبّ اجعل هذا البلد آمنًا} [إبراهيم: 35] أي: هذه التي صارت بلدًا أريد لها مَيْزة على كل البلاد، وأمنًا أزيد من أمن أيّ بلد آخر، أمنًا خاصًا بها، لا الأمن العام الذي تشترك فيه كل البلاد، لماذا؟ لأن فيها بيتك.
لذلك يرى فيها الإنسان قاتلَ أبيه، ولا يتعرَّض له حتى يخرج، فالجاني مؤمَّن إنْ دخل الحرم، لكن يُضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج، حتى لا يجترئ الناس على بيت الله ويفسدون أمنه، ومن هذا الأمن الخاص ألاَّ يصاد فيه، ولا يُعْضَد شجرة، ولا يُروَّع ساكنه.
وكأن الحق- سبحانه وتعالى- يقول للمشركين: لماذا لا تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلدًا آمنًا، في حين يُتخطف الناس من حولكم؟ لماذا لا تحترمون وجودكم في هذا الأمن الذي وهبه الله لكم.
وعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهم: {وقالوا إن نَّتَّبع الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ منْ أَرْضنَآ} [القصص: 57] كيف وقد حَمْيناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الأصنام، أنترككم بعد أنْ تؤمنوا مع رسول الله.
وقصة هذا الأمن أولها في حادثة الفيل، لما جاء أبرهةُ ليهدم بيت الله ويُحوّل الناس إلى بيت بناه باليمن، فردَّ الله كيدهم، وجعلهم كعصف مأكول، وحين نقرأ هذه السورة على الوَصْل بما بعدها تتبين لنا العلَّة من هذا الأمن، ومن هذه الحماية، اقرأ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأَصْحَاب الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْليلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهمْ طَيْرًا أَبَابيلَ تَرْميهم بحجَارَةٍ مّن سجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5] لماذا؟ {لإيلاَف قُرَيْشٍ إيلاَفهمْ رحْلَةَ الشتاء والصيف} [قريش: 1-2].
فالعلة في أن جعلهم الله كعصف مأكول {لإيلاَف قُرَيْشٍ} [قريش: 1] لأن اللام في {لإيلاَف} للتعليل، وهي في بداية كلام فالعلة في أن الله لم يُمكّن الأعداء من هدم البيت لتظلّ لقريش مهابتها ومكانتها بين العرب، ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان.
وهذه المكانة تُؤمّن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، لا يتعرَّض لهم أحد بسوء، وكيف يجتريء أحد عليهم أو يتعرّض لتجارتهم وهم حُماة البيت؟
فمعنى {لإيلاَف قُرَيْشٍ} [قريش: 1] أن الله أهلك أبرهة وجنوده ولم يُمكّنهم من البيت لتظل لقريش، وليُديم الله عليها أنْ يُؤْلَفوا وأنْ يُحبُّوا من الناس جميعًا، ويواصلوا رحلاتهم التجارية الآمنة.
لذلك يقول تعالى بعدها {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4] فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم، فما هم فيه من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم، إنما بجوارهم لبيت الله، ولبيت الله قداسته عند العرب، فلا يجرؤ أحد منهم على الاعتداء على تجارة قريش.
فقولهم لرسول الله: {اإن نَّتَّبع الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ منْ أَرْضنَآ} [القصص: 57] حجة لله عليهم، ففي الوقت الذي يُتخطّف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان، فهي حجة عليهم.
ثم إن الشرط هنا {إن نَّتَّبع الهدى مَعَكَ} [القصص: 57] غير مناسب للجواب {نُتَخَطَّفْ منْ أَرْضنَآ} [القصص: 57] فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى- يعني هدى لله- فكان يجب عليكم أنْ تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى، وإلا فأنتم كاذبون في هذا القول، ولمَ لا وأنتم تُكذّبون القرآن وتقولون عنه افتراءوكذب وسحر، والآن تقولون عنه هدى، وهذا تناقض عجيب.
ألم يقولوا {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظيمٍ} [الزخرف: 31] ومعنى هذا أن القرآن لا غبارَ عليه، لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات.
وقوله تعالى: {أفبالباطل يُؤْمنُونَ} [العنكبوت: 67] أي: بالأصنام {وَبنعْمَة الله يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] قال: {وَبنعْمَة الله} [العنكبوت: 67] ولم يقل مثلًا: وبعبادة الله، أو بالإيمان بالله يكفرون؛ لأن إيمانهم لو لم يكُنْ له سبب إلا نعمَ الله عليهم أنْ يُطعمهم من جوع، ويُؤمنهم من خوف لكان واجبًا عليهم أنْ يؤمنوا به.
والباطل مقابل الحق، وهو زَهُوق لا دوامَ له، فسرعان ما يفسد وينتهي، فإنْ قلتَ ما دام أن الباطل زهوق وسينتهي، فما الداعي للمعركة بين حَقٍّ وباطل؟